عُصاةُ التاريخِ كَثرَةٌ. هُمُ مَن يُدَمِّرونَهُ وَقَد تَفَنَّنوا في الإغتيالوجيا، بِما يَفوقُ نَهَمَهُم لِلإستِبدادِ. وَلِلإستِبدادِ مَساراتٌ عِدَّةٌ مِنَ الإفناءِ الى إستِبدالِ الهَوِيَّاتِ الأصلِيَّةِ بِأُخرى مُدمِيَةِ، نِهَمُها لِلدِماءِ حَدَّ التَمَسُّكِ باللهِ، مَصدَراً لِلإستيلاءِ، لِلحُكمِ، لِلتَحَزُّبِ، لإستِنزالِ المُقَدَّرِ وإستِدرارِ تَنازُعِ السَرابِ.

مِسكينٌ اللهُ، وَحيداً هو في حَلَباتِ عُصاةِ التاريخِ إلّا مِن دُموعِهِ، وَسطَ تَوَهُّمِ النَصرِ وإيهامِ الإنكِسارِ، وَعيُ الصُمودِ المُطلَقِ. وَسطَ تَفَلُّتِ التَوَحُّشِ النَقيضِ، المُستَفيضِ مِن إدِّعاءِ التَمَسُّكِ بالمَشيئَةِ الإلَهِيَّةِ لِلتَسَيُّدِ على الحَقائِقَ البَشَرِيَّةِ وَإعلاءِ الأنا فَوقَ كُلِّ آخَرٍ حَدَّ سَحقِهِ وَطَردِهِ إن لَم يَنزَوِ فَيَرحَلَ. وَحيداً هو إذ سَلَّطَ الإنسانَ على أعمالِ يَدَيهِ هو، فَأخضَعَهُ الإنسانُ لِوَطأةِ قَدَمَيهِ التي مِن تُرابٍ، مِن زَوالٍ.

عُصاةُ التاريخِ كَثرَةٌ؟ في الزائِفِ، في الإفتِراءِ، في الهَزائِمَ، يُهَلِّلونَ لإنتِصاراتٍ يُجِلُّونَها مُقتَضَياتِ وَعيٍ، وَهي مِنَ الوَعي وَلِلوَعي النَقيضُ.

ها هُنا صَميمُ المأساةِ: تَغيِّيبُ اللهِ بِحِجابِ التَمَسُّكِ باللهِ. بِإدِّعاءِ الحُكمِ لَهُ والإستِحكامِ بِهِ... حَدَّ التَنكيلِ بِخَلائِقِهِ قَدرَ التَنكيلِ المُتَعَمَّدِ بِهِ، تَحتَ سِترِ الغَشاوَةِ المُكَثَّفَةِ. وَتَغيِّيبِ الإنسانِ بِحُجَّةِ التَمَسُّكِ بِهِ. بِإدِّعاءِ الحِكمَةِ لَهُ والحُكمِ عَلَيهِ... حَدَّ التَنكيلِ بِكَرامَتِهِ وَحَياتِهِ قَدرَ التَنكيلِ العَمَدِ بِمَضامينَ مَدارِكِهِ العَقلانِيَّةِ، تَحتَ سِترِ تَكثيفِ إٍستِدراكِهِ مِن جُحودِهِ.

ها هُنا صَميمُ العِصيانِ: إغراقُ أرضٍ بِأُخرى، وَشَعبٍ بِآخَرَ. إمبراطورِيَّاتُ القُوَّةِ البالِغَةِ العَظَمَةِ بالتَوَحُّشِ، ما لَجَأت إلَيهِ. ما كانَ هَمُّها أساساً، وَقَد بَسَطَت قَبضَتَها على الشاسِعِ مِن أرضٍ لا تَغرُبُ عَنها الشَمسُ، فَتَمَلَّكَت فيها حَتَّى دِفءِ الحَرارَةِ الآتِيَةِ مِن لَدُنِ السَماءِ، وَتَألَّهَ حُكَّامُها بِسُلطانِ الأرضِيَّاتِ والسَماوِيَّاتِ، ماسِحينَ الأرضَ بِأسمائِهِمِ والشُعوبَ بِكُنياتِهِمِ. تِلكَ القَبائِلُ الزاجِرَةُ الرِمالَ وَسَرابَها إستَبدَعَت ذاكَ العِصيانَ. مِن زَمَنِ المَماليكَ، وَقبلَهُم الأيُّوبِيُّونَ الى بَني عُثمانَ وَخُلَفائِهِمِ...، كُلُّهُم قَسَموا الأرضَ المُستَباحَةَ بِهِمِ وَلَهُمِ "صَفَقاتٍ"، فَجَعَلوها: "الصَفَقَةَ الساحِلِيَّةَ والجَبَلِيَّةَ" مِن بِلادِ قَبائِلَ الفَلِسطو الى غَربِ نَهرِ الأُردُنِ، و"الصَفَقَةَ القَبَلِيَّةَ" مِن بَدوِ حورانَ والجولانِ الى غَورِ الأُردُنِ... وصولاً الى "الصَفَقَةِ الشَمالِيَّةِ" وَتَشمُلُ البِقاعَ البَعَلبَكِيَّ والبِقاعَ العَزيزِيَّ والشوفَ وَجِزِّينَ الى صَيدا وَصورَ وَتَوابِعُهُما مِن مَجرى نَهرِ "الليطا" (الليطانيِّ) الى شقيفِ أرنونَ فالجَليلِ الأعلى ضِمناً وَبَيروتَ بِجِبالِ غَربِها: المَتنَ وَكِسروانَ الى ذُرى الشَمالِ الُلبنانِيِّ المُتَراميَ مِن جُبَيلَ حَتَّى الأقاصِيَ مِنَ "الضِنَينِ" (الضِنِيَّةَ) وَ"بشَرّيه" (بِشَرِّي) وأنفِه (ساحِلَ طَرابُلُسَ وَما يَليهِ مِنَ الكورَةِ)، وَجِبَّةِ المُنَيطَرةِ، "وَما لَعَلَّ في تِلكَ مِمَّا لَهُ وِلايَةٌ"، على ما يَذكُرُ أبنُ فَضلِ اللهِ العُمَريِّ، في "التَعريفِ بالمُصطَلَحِ الشَريفِ"، فَإلى حُصنِ عَكَّارَ والبُرجَيَّة "قاعِدَةُ الحُصنِ" على ما دَوَّنَ القَلقَشَنديُّ.

حِمايَةُ الحَياةِ

قُلّ: لبنانُ. العَصِيُّ على عُصاةِ التاريخِ.

وَلَو أغرَقوهُ بِعَشائِرِهِمِ الأَسكَنوهُم في "أزواقَ" (أيّ مُستَوطَناتٍ عَشائِرِيَّةٍ)، وَعُرِفَ زُعَماؤهُمُ بِ"أولادِ الأعمى" تَرجَمَةً لِلإسمِ المَملوكِيِّ-التُركمانِيِّ-التُركِيِّ Köroghlu "كور أوغلو" (أيّ "إبنُ الأعمى") ألكانَ إسمَ أحَدِ رُموزِ أساطيرِهِمِ، بَعدَما خَرَّبوا حاضِراتِهِ وَضِياعِهِ وَقَطَعوا أشجارَهُ وَقَتَلوا آباءَهُ وأبناءَهُ، وَغَنَموا نِساءَهُ وَثَرَواتَهُ.

قُلّ بَعدُ: لبنانُ. حَضارَةُ الجُذورِ القاهِرَةِ الزَوالَ. الغالِبَةِ التَجديفَ الرَهيبَ لِعُصاةِ التاريخِ.

وَلَو أغرَقوهُ بِإدِّعاءِ الحَجِّ لِقَبرِ الحاخامِ راب آشي على "تَلَّةِ العُبَّادِ" مَثوى النُسّاكِ والعِبادِ الرافِعينَ مِن هَذِهِ الأرضِ هُتافَ عِناقِها مَعَ رَحابَةِ السَماءِ.

قُلّ أكثَرَ: لبنانُ-عَطِيَّةُ-الحَقيقَةِ. لا أرضَ غَيرَ... لِحَقيقَةِ التاريخِ. لِحِمايَةِ الحَياةِ.